ملفّ “الإعلام التونسي بعد 14 جانفي.” سنحاول، بما تسمح به إمكانيّاتنا ومواردنا المتواضعة، المساهمة في تسليط الضوء على هذا الموضوع الحسّاس؛ خاصّة خلال هذه المرحلة الإنتقالية الدقيقة نحو الديمقراطيّة. إذ لا جدال اليوم حول الدور المحوري الذي يلعبه الإعلام (لا سيّما المرئي منه) في تشكيل “الرأي العامّ” وأذواق الجمهور وفي التأثير على قناعات النّاس السياسيّة والإيديولوجيّة. سنحرص ان يكون واقع الإعلام، بمختلف أشكاله (العمومي والخاصّ، البصري والسمعي والمكتوب، التقليدي والجديد والخ) محورًا ثابتًا في اهتمامات موقعنا. وقد خيّرنا أن نبدأ عملنا بالإعلام “التقليدي”، تحديدًا القنوات التلفزيّة. وذلك لما تؤكّده المعاينة الفرديّة البسيطة أو استطلاعات الرأي (آخرها الذي قام به معهد ” IRI”، التابع للحزب الجمهوري الأمريكي، حول أراء التونسيين السياسيّة ونِسَب مشاهدتهم لوسائل الإعلام!) من تواصل استحواذ هذا الوسيط الإعلامي على النسبة الأكبر من متابعة الجمهور – خاصّة فيما يتعلّق بالمواد الإخباريّة.
تحقيق حول قناة “نسمة” (الجزء 1)
“نسمة،” ضحـــــــيّة بن علـــي أم ربـــيبَـتُــه؟
المشهد التونسي – خاصّ – غسّان بن خليفة
تحوّلت قناة “نسمة” في الفترة الأخيرة إلى أحد أكثر المواضيع إثارة للجدال في تونس. جدال بدأ قبل 14 جانفي، لكنّه ازداد سخونة بعد هذا التاريخ. مردّ ذلك اختيار “قناة المغرب الكبير”، ككثير من وسائل الإعلام الأخرى، دخول غمار النقاش السياسي بقوّة واعتماد خطّ تحريري – وان كان غير مُعلَن رسميًا- تبنّت فيه خطابًا “ثوريًا” لم يعهده منها متابعوها. إذ تراوح المضمون السياسي لبرامجها طيلة السنوات الماضية بين الصمت والمساندة الواضحة لنظام بن علي. واليوم، بين من يثمّن دفاعها عن “الحداثة” و”المرأة” ومن يرى فيها جزءاً من مؤامرة “صهيونيّة” على “الهويّة العربيّة الإسلاميّة” لتونس، تضيع أحيانًا بعض التفاصيل المهمّة. هذه محاولة للتثبّت موضوعيًا من بعض ما يُوجَّه من اتّهامات لهذه القناة. تحديدًا ما يُنسَبُ إليها من “انتهازيّة” ودعم للسلطة السياسيّة قبل 14 جانفي… وبعده أيضا. وسنكتشف في هذا الجزء الأوّل من التحقيق: أنَّ ما تعرّضت له “نسمة” من مضايقات عند انطلاقتها، حسب ما يقوله أصحابها، لم يمنعها (خاصّة مع انضمام طارق بن عمّار الى مالكيها) من ان تتحوّل إلى خادمة مطيعة له. وربّما الى أكثر من ذلك…
القناة الضحيّة؟
لم يتردّد نبيل القروي، الرئيس المدير العامّ للقناة، في حديث أدلى به لموقع “المشهد التونسي” (قبل حوالي شهر) في زعم أنّ مؤسّسته كانت، على عكس ما يتهمّها به البعض، ضحيّة لمضايقات نظام بن علي. اذ يروي مثلاً كيف قامت السلطة بتحطيم اللافتات الإشهاريّة لشركة “قروي آند قروي” بمختلف جهات البلاد، في فيفري 2007. ما كبّدها خسائر بقيمة 200 مليار مليم. وذلك بعد ان تفطّنّت الحكومة الى كون الشركة هي مالكة قناة “نسمة”، التي كانت تبثّ من فرنسا في البداية، دون ان تُعلمها بذلك. كما أضاف القروي انّ قناته تعرّضت، لنفس السبب، لتضييقات من البنوك التونسيّة ومن “مصلحة الضرائب”. ولفتَ إلى أنّ “نسمة” حُرِمَت تمامًا من الإشهار من قِبَل وكالة الاتّصال الخارجي، المعروفة باحتكارها لتوزيعه في عهد بن علي. بل وكشفَ لنا أيضا انّه سيقدّم ملفًّا، للجنة تقصّي الحقائق في قضايا الفساد، للمطالبة بتعويضات عمّا لحق شركَته من حيف في عهد الديكتاتور الهارب.
القروي ذكَر كذلك أنّ قناته كانت ضحية لتشفّي ليلى الطرابلسي، بعدما رفض أن تزوّر شركته نتائج التصويت على نهائي برنامج “ستار أكاديمي” في لبنان. حيث كانت ابنة إحدى صديقات ليلى – دائمًا حسب قوله - من المتنافسات على اللقب. انتقام قال أنّه كلفّه ثلاثة مليارات من الملّيمات.
“قناة المحرّرِين”…
شريك القروي في القناة، المنتج السينيمائي طارق بن عمّار، لم يجد بدوره حرجًا في وصف قناة نسمة بأنّه “يُشادُ بها (اليوم) كقناة المُحرٍّرٍين”. وذلك في ردِّ له على الصحفي الفرنسي رينو ريفال، رئيس تحرير أسبوعيّة “ليكسبراس،” الذي ذكّره بسجلّه في دعم بن علي (ملخّص حول هذا الموضوع في مقال لزميلنا طارق الكحلاوي). كما زعمَ بن عمّار انّ “نسمة” هي “القناة العربيّة الوحيدة المستقلّة تمامًا عن الدولة” و”أنّها لم تنتظر نهاية عهد بن علي لتتحدّى الرقابة وتبثّ برنامجًا خاصًا عن الأحداث الاجتماعية الدائرة” (المقصود هو البرنامج الذي بثّته القناة يوم 30 ديسمبر حول الأحداث بجهة سيدي بوزيد). وهو ما أكدّ عليه أيضا قبل ذلك بأيّام قليلة في تصريح أكثر جرأة لإذاعة “أوروبا1″، حيث زعَمَ أنّه “أرسَل” مصوّري قناته لتغطية ما يجري “دون ان يأخذ إذنًا من أحد”.
وعلى خلفيّة نفس البرنامج أكّد القروي تلقَّيه تهديداتٍ بغلق القناة من وزارة الاتّصال ( الى تاريخ 14 جانفي لم يحصل ذلك). كما أطلَعنا على رسالة بهذا المضمون (كانت بتاريخ 31/12 ) من وزير الاتّصال وقتئذ سمير العبيدي. حيث ذكّر الوزير قناة “نسمة” بأنّه لا يُسمَح لها، حسب كراسّ الشروط المنظّم لرخصتها، إعداد برامج تتناول الشأن السياسي التونسي، كما ذكّرها بضرورة احترام استعمال اللغة العربيّة في برامجها. وتضمنّ محضر تنبيه من الوزارة نفسها (بتاريخ 04 جانفي) مطالبَة للقناة بتقديم برنامج آخر “مُرضي” في غضون 15 يوما من تاريخ وصول المراسلة. وقال القروي انّه تلقّى عبر محاميه استدعاءً للتحقيق القضائي على خلفيّة نفس الموضوع.
لكنّ حديث بن عمّار عن “تحدّي الرقابة” و”عدم استشارة أحد” حول الحصّة عن سيدي بوزيد لا ينسجم مع ما صرّح به مقدّم البرنامج نفسه، الصحفي حسن بن عثمان ( بجريدة “الصريح” في 02/13 /11). إذ كشف أنَّ البرنامج كان استجابة لطلب من بن علي نفسه. وأكّد القروي ضمنيًا في حديثه معنا – بعد ظهور تصريح بن عثمان – بطلان ما زعمه بن عمّار، لكنّه أوضح أنَّ طلب إعداد الحصّة كان من أسامة الرمضاني، وزير الاتصال. كما أضاف أنّه رفض ذلك في البداية متعلّلاً بأنّه “لا يمارس السياسة”، قبل ان يوافق في اليوم التالي مشترطًا على الوزير أن يسمح له بالتصوير في سيدي بوزيد. وقد صوَّر لنا القروي “قبوله” بتصوير البرنامج على أنّه عمل شجاع، أراد من خلاله “استغلال “الضوء الأخضر” الممنوح له كي يكشف حقيقة الوضع في المدينة “المحَاصرة من الجيش” آنذاك. لكن بن عثمان قال – في نفس حديثه لـ”الصريح” - انّ الهدف من الحصّة كان ” التخفيف عن النّاس”. بن عثمان قال أيضا أّنّ البرنامج لم يعجب بن علي وأنّه اتّصل أثناء البثّ بالقروي وهدّده بردّ فعل عنيف. لكنّ الأخير قال لنا أنّ بن علي اتّصل ببن عمّار – وليس به هو – وقال له انّه سيزّج بالقروي في السجن (إذا أعادت القناة بثّ البرنامج، حسب تصريح بن عمّار لـ”أروبا1″). كما ذكَر أنّ عناصر من الشرطة أتوا لمقرّ القناة أثناء البرنامج. “نسمة” خضعت على ما يبدو للتهديد ولم تُعِد بثّ البرنامج، كما لم تضعه على الأنترنات كما جرت العادة. وهو ما لا يتوافق أيضا مع كلام بن عمّار عن “تحدّيها الرقابة”.
تمجيد الديكتاتور
لكنّ في المقابل يستشهد منتقدو القناة بأكثر من دليل على أنّها كانت من الأبواق الإعلاميّة للديكتاتوريّة. اذ يطرحون أوّلاً السؤال الاستدلالي حول سبب كونها إحدى قناتين خاصّتين لا ثالث لهما تمتّعتا بامتياز الترخيص في العهد السابق. ويذكّرون بتصريحات لمديرها نبيل القروي – أشهر قليلة قبل الثورة-، على موجات اذاعة “آكسبريس آف آم”، وصف فيها بن علي بالـ”اللامع” (ترجمة تقريبيّة لكلمة “جينيال” الفرنسيّة حسب سياق الحديث). كما شبّه ترخيص بن علي لقناته ولإذاعتين خاصّتين جديدتين بـ”الخيال العلمي”. بل ولم يتردّد يومها في الحديث بزهو عن انتمائه لـ”جيل بن علي”. كما يذكّر المنتقدون بتصريحات أخرى لنبيل القروي إحتفى فيها بفوز بن علي بالإنتخابات، ذاكرًا فضله على قناته ، وواصفًا له بـ”أب الجميع”.
شريكه الرئيسي طارق بن عمّار لم يحِد عن القاعدة بدوره. اذ أغدق، في أكثر من مناسبة، شكرًا ومدحًا على بن علي. ولعلّ أبرز ما قاله في هذا السياق كان بمداخلة له على إذاعة “موزاييك،” بمناسبة إعلان بن علي في 20 مارس 2009 عن ترخيصه لـ”نسمة”. إذ أعلنَ على موجات الأثير أنّ: “من يقول انّه لا توجد حرّية في تونس فهو يكذب على البلاد” (2:30 دق)، فقط لأنّ بن علي قبلَ بدخول مستثمرين أجانب في رأسمال قناة خاصّة (أيْ “نسمة”). وهو ما يُعَدُ – حسب بن عمّار نفسه – إجراءًا “غير معتاد ولا تسمح به حتّى قوانين الدول الديمقراطيّة العريقة” كفرنسا والولايات المتّحدة “بلاد الحرّية”، حسب تعبيره.
وإجابة على سؤالنا: لماذا خيّر الأخوان القروي، رغم “تنكيل” النظام بهما سنة 2007، التمسّك بإطلاق قناتهما من تونس، قال مديرها أنَّ غايته كانت توسيع هامش الحرّيات. وأضاف أنّه لم ير بدًا لذلك من الاكتفاء ببرامج ترفيهيّة، في انتظار تحسّن مُحتَمَل للأوضاع بالبلاد. كما ذكَر، من بين الأسباب، الصعوبات الماليّة والديون التي تورّطت فيها شركتهما. لكن هل كان ذلك يبرّر مواصلة التمسّك بخطاب تمجيد بن علي الى حدّ انتاج شريط غنائي دعائي لحملته الرئاسيّة في انتخابات 2009 بعنوان “أحنا الزّين.”؟ شريط لم تدخّر فيه شركتهما “قروي آند قروي”، باعثة القناة وإحدى مالكيها الرئيسيّين، جهدها في شكر “الزّين” وذكر إنجازاته و”الحرّية” التي يتنعّم بها التونسيون “من بنزرت للمهديّة”، كما تقول الأغنية. القروي برّر ذلك بأنّه كان “مُضطَرًا”، وأنّه كان يتلقّى مهاتفات من مسؤولين من النظام يطالبونه دائمًا بالمزيد من الشكر والمدح لبن علي ونظامه.
بن علي “العــرَّاب”؟
لكنّ إحدى “مفاجآت” حوارنا مع السيّد نبيل القروي كانت كشفه أنَّ الترخيص للقناة أتى بمبادرة من بن علي نفسه. إذ، على اثر الصعوبات المالية التي عرفتها القناة، اتّصل الديكتاتور في ديسمبر 2007 بالأخوين القروي وسألَهما حول “ما يريدان فعله الآن”. فكان ردّهما أنّهما يريدان بعث قناة تكون “ذات تأثير على منطقة المغرب العربي وفرنسا” وتخدم مصالح بن علي. ولإقناعه أكثر ساقا له مثالاً مغريًا: إجراء تحقيق حول وضعيّة المغاربة المُضطَهَدين في فرنسا “نُشعِل به الضواحي (ضواحي باريس) “، حسب تعبير القروي. فيكون لبن علي بذلك “أسبقيّة على الحكومة الفرنسيّة” تمكّنه من الضغط عليها، تمامًا كما تفعل قطر عبر قناة الجزيرة. ويضيف القروي أنّ عرضَهما أعجبَ بن علي، الذي سألَهُما مع من يريدان الاشتراك (في رأس مال القناة). فكان ميلُهما إلى المنتج السينمائي طارق بن عمّار. وهو اختيار وافق عليه بن علي على الفور. بل ويتبيّن من تصريحات لبن عمّار على اذاعة “آكسبريس آف آم” (جرى سنة 2010) انّ بن علي شكر له الأخوان القروي ووَصفهما – باللغة العاميّة - بأنّهما “شباب هايلين” وبأنّهما “مستقبل تونس”. بل وأضاف انّ بن علي نفسه هو من طلب منه التعرّف إليهما (2:49 دق)… وبالتالي قد يصحّ اعتبار أنّ بن علي كان الـ”عرّابَ” الأصلي لصفقة مشاركة طارق بن عمّار (الذي أتى بعد ذلك ببرلسكوني، بموافقة بن علي ايضا) للأخَوان القروي في رأس مال قناة “نسمة.” وتلك “مفاجأة” أخرى…
وقد ترافَق الترخيص للقناة في مارس 2009، مع تعيين فتحي الهويدي، الوزير الأسبَق للإعلام في عهد بن علي ومدير الإذاعة والتلفزيون في بداية التسعينات، رئيسًا لمجلس ادارتها. الهويدي كان وزيرًا للإعلام في أحلك فترات القمع – والتعتيم الإعلامي عليه- الذي مارسه بن علي ضدّ معارضيه. بل وكان أداة تنفيذيّة لإقصاء وترهيب الصحفيين المستقلّين من أمثال الحبيب الغريبي. لكن نبيل القروي فسّر الأمر بأنّ مهمّة ،”صديقه القديم” الهويدي، اقتصرَت على التحاور مع مسؤولي النظام. لأنّه كان أنسب شخص لتلك المهمّة بفضل لباقتة وعلاقاته.
هذا عن علاقة قناة “الحرّية” و”التسامح والإنفتاح على المتوسّط” بديكتاتوريّة بن علي قبل هروبه. لكنّ علاقتها بمن خلفوه منذ يوم 14 جانفي تحتاج بدورها الى المزيد من التدقيق.
(في الجزء 2: علاقة “نسمة” بالسلطة السياسيّة في تونس بعد 14 جانفي)


